المدونات والبودكاست

pattern@2x

يوم في رأس الخيمة القديمة

 

في معظم مدن الخليج العربي, مفهوما "التراث" و"الحياة الحديثة" منفصلان تماماً عن بعضهما البعض, بعض الأحياء القديمة يتم ترميمها وتحويلها بشكل جذري إلى مناطق تراثية, وفي معظم الأحيان يتم هدم هذه المناطق تماماً وبنائها كلياً من جديد, أو يتم إنشاؤها من العدم في حال وجود أراضٍ خالية منذ زمن ما قبل اكتشاف النفط.

رأس الخيمة مختلفة تماماً عن المدن الأخرى, حيث أن البناء في رأس الخيمة يتضمن مزيجاً من المباني التي يزيد عمرها عن الأربع أو الخمس عقود. يمتاز مركزها العمراني, والذي يمتد من منطقة متحف رأس الخيمة الوطني إلى طرف شبه الجزيرة, باندماجه الدقيق مع النسيج العمراني للمدينة بأكملها, لذا فإن مصادفة التراث هو جزءٌ يومي في تلك المدينة.

على الرغم من أن معظم مواطني الإمارة قد انتقلوا بالفعل إلى ضواحي جديدة, تجلب مدينة رأس الخيمة القديمة المواطنين باستمرار إليها يومياً, ففي الصباح الباكر يعتبر سوق السمك من أكثر المواقع التي تشهد ازدحاماً بالسيارات. مسجد محمد بن سالم القاسمي, والذي يُعرف أحياناً بمسجد القواسم, يطل على الخليج العربي والكورنيش القديم, حيث شهد هذا المسجد عدداً كبيراً من المصلين على مر العقود, وقد كشف التنقيب عن الآثار بأن هذا المسجد متواجد منذ عام 1500 ميلادية على الأقل. تم ترميم هذا المسجد بشكل جميل ويتزين بمنارة خارجية وسُلّم بسيط وسقف من أعمدة المنغروف وسعف النخيل. ولمدة زمنية طويلة, كان هذا المسجد الرئيسي للإمارة, لهذا يُعرف أيضاً بالمسجد الكبير, على الرغم من حجمه وموقعه المتواضعَين (مقارنة بالمعايير الحالية), ويعود الكثيرون يومياً إلى هذا المسجد للصلاة فيه, والاستمتاع بالجو الهادئ الذي تتميز به ساحة مواقف السيارات الخاصة به.

تهدأ حركة السير في مدينة رأس الخيمة القديمة بحلول وقت ما بعد الظهيرة, ولكن مع قروب موعد الغروب تبدأ حركة السير بالتنشط تدريجياً, تتضمن المنطقة مقهيين وهما مقهى المنور ومقهى كاليكوت, وما يميز هذان المقهيان هو امتلاؤهما بكبار السن من مواطني الإمارة, ويجاور مقهى المنور السوق القديم "سوق العبرة" على الجانب الداخلي من المدينة. يمكن شراء حاجتين من مقهى المنور, الماء والشاي, ولكن ما أفضل من ذلك هو الأحاديث والذكريات التي قد تستمع إليها خلال جلوسك في المجلس. اعتادت العَبرات (تماماً كالتي تتواجد في خور دبي) أن تعبر المياه إلى النخيل والمعيريض, ولكن اعترض الجسر الذي تم بناؤه في أوائل الثمانينات تجارتهم. يعتبر مطعم كاليكوت ,والذي يقع على الشارع العام للمدينة القديمة باتجاه سوق السمك, من أقدم المطاعم في دولة الإمارات العربية المتحدة, ولا يزال يجذب الزبائن المواطنين من كبار السن في وقت الظهيرة. وفي الزاوية الجنوبية الشرقية للمدينة القديمة خلف سلسلة من المحلات ومساحة كبيرة من موقع بناءٍ مهجور, يتواجد "برج الحليو" وهو برج مراقبة معاد ترميمه اعتاد أن يكون موقعاً للحراسة, وتقع بالقرب من هذا البرج مقاعد يتجمع فيها سكان المنطقة.

مع اقتراب موعد الغروب, تزدحم ساحة مواقف السيارات المقابلة لسوق السمك بالسيارات حيث يصطف العامة لشرب شاي الكرك, والذي يتم توصيله إلى أصحاب الطلب في سياراتهم وذلك بسعر درهم واحد فقط في مقهى نينا. ويعتبر شاي الكرك من الأساسيات في حياة المواطن الإماراتي, وكلمة "كرك" هي هندية الأصل وتعني "قوي", وهو فعلاً ما يتميز به هذا الشاي. قبل غروب الشمس, يصبح الكورنيش القديم مركزاً جديداً للحياة في المدينة القديمة, وتصبح محلات شاي الكرك, وبالأخص "ماندارين" و"ملك الكرك" من المناطق الارتكازية للمارة الذين يجوبون الكورنيش ذهاباً وإياباّ مع غروب الشمس فوق الخليج العربي, ويستمر ذلك حتى أذان المغرب, وبعد غروب الشمس تنتعش المنطقة التجارية حيث أن المواطنين وغير المواطنين يعودون إلى الأسواق البسيطة والمطاعم.

يعتبر قلب المدينة القديمة سكني, ويمكن ملاحظة تاريخ رأس الخيمة الحديث في تلك المنازل, العديد من منازل ما قبل اكتشاف النفط ما زالت صامدة في ظل مختلف الظروف, معظهم يحتوي فقط على جدران وغرف خالية تتلاشى مع مرور الزمن, وأغلب سكان هذه المنازل هم من عمال شبه القارة, وقد قام هؤلاء العمال بتثبيت أطباق الأقمار الصناعية وأجهزة التكييف وبعض وسائل الراحة الأخرى في منازلهم. بعض المنازل في هذه المنطقة يتم بناؤها على نمط فناء المنازل القديمة ولكن باستخدام الخرسانة وبعض مواد البناء الحديثة وتسمى بالبيت العربي والتي تم بناء بعضها من قِبل مواطنين عادوا إلى ديارهم من رحلة عمل في دولة الكويت, ومن ناحية أخرى تحتوي المدينة القديمة على مباني حديثة كالبناية ذات الست طوابق "بناية بورسلي" والتي تعد من أبرز عمران المدينة القديمة والتي تم بناؤها في وقت ما خلال السبعينات. هناك قصتان حول سبب تسمية هذه البناية بهذا المسمى, تزعم القصة الأولى أنه كان هناك نادٍ رياضي في تلك البناية يعرض ملصقاً للممثل "بروس لي", في حين أن القصة الأخرى تزعم بأن "بروس لي" هو تضليل لـ"آل بورسلي" وهي عائلة كويتية استثمرت مبلغاً من المال في عقارات رأس الخيمة في ذلك الحين, ويتساءل البعض فيما إذا كانت تلك البناية هي بالفعل بناية بروسلي, زاعمين بأن بناية بروسلي الحقيقة متواجدة في منطقة النخيل. بغض النظر عما سبق, فإن محور القصص والأساطير المحلية هو أن تلك البناية تبدو وكأنها مجرد بناية عادية.

خلال السنوات القليلة الماضية, شهدت المدينة القديمة شيئاً من الانتعاش, حيث أن أصالة المنطقة ووتيرة حياتها البطيئة وسهولة الوصول إليها أدت إلى نهوض عددٍ من المشاريع الصغيرة التي تعايش مفهوم المؤسسات القديمة كمحل عاشوق للمثلجات, وكافتيريا البحر الأزرق, وأيضاً تم افتتاح بعض المقاهي الجديدة ومطاعم البرغر ومحلات الكعك وظهرت إضاءات ومظلات جديدة, بالإضافة إلى تواجد سيارات فارهة, تحمل أرقاماً مميزة, ينتظر ملّاكها طلباتهم في سياراتهم. ربما هذا الانتعاش هو بداية إعادة اكتشاف وصياغة لنمط عمران المدينة القديمة على الرغم من أنه لطالما كان حياً. قد يسمى ذلك "تحسيناً" في مناطق أخرى من العالم, وما لنا إلا أن نرى ما ستؤول إليه المدينة القديمة.

لمعرفة المزيد حول التراث الحي كنمط بديل لحفاظ والترويج للتراث مقارنة بالممارسات الحالية للمنطقة حول تقليد عوامل جاذبة ذات صلة بالتراث بالإضافة إلى كيفية موازنة الرغبة في جذب السياح مع الاحتفاظ بالأصالة (شاملاً لتوصيات محددة لإمارة رأس الخيمة) يمكنكم الاطلاع على بحوث السياسة المفتوحة "الحفاظ والترويج لتراث رأس الخيمة" من إعداد ماثيو ماكلين على موقعنا الإلكتروني.



محتوى ذو صلة