المدونات والبودكاست

pattern@2x

السياسة اللغوية أكثر من مجرد وثائق

عندما نفكر بالسياسات اللغوية، او السياسة العامة عموماً، قد نتخيل وثائق او إعلانات حكومية طويلة، على سبيل المثال رؤية الإمارات للعام 2021، أو ميثاق دولة الإمارات. ومع ذلك، فإن السياسة اللغوية لا تعني فقط مجرد وثائق، بل تتعدى ذلك لتشمل مفاهيم أخرى. برنارد سبولسكي (2004)، هو باحث في السياسة اللغوية، ويوضح بأن هناك ثلاثة أبعاد للسياسة اللغوية، وهي تحديداً: المعتقدات، والممارسات، والإدارة. بناء على ذلك، إذا استندنا فقط على الوثائق، فإننا نفكر فقط في الإدارة (وربما هذه المعتقدات والافتراضات تكون على المستوى الوطني)، لكن من المهم أن نفهم كيفية استخدام الناس للغة بشكل يومي. وعليه، جانب من جوانب بحثي الأخير الذي انجزته في إمارة رأس الخيمة يركز على التوصل إلى فهم حول هذه المسألة. اردت التعرف على التجارب اللغوية الفعلية للناس في دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى وجه التحديد في إمارة رأس الخيمة، وكيف تتوافق (أو لا) مع أهداف السياسة الرسمية؟

هناك أمران مهمان يجب مراعاتهما عند ربط الممارسات اللغوية بسياسة اللغة. السؤال المهم الذي يؤخذ بنظر الاعتبار من قبل الكثير من واضعي السياسات هو ما هي تأثيرات سياستهم على ممارسات الأفراد والمؤسسات؟ أنهم يريدون معرفة ما إذا كانت سياساتهم ذات تأثير ايجابي أم لا، وإذا كانوا بحاجة إلى إجراء أية تغييرات من أجل تحقيق الأهداف المطلوب تحقيقها، أو كيف يمكنهم إنشاء سياسات أفضل في المستقبل. هذا النهج شائع بالنسبة لصانعي السياسات وعند إجراء الإصلاحات. ومع ذلك، فإن السؤال الثاني الذي لا يتم طرحه في كثير من الأحيان، ولكن من المهم جداً التفكير فيه، حتى لو كان من الصعب الإجابة عليه، هو كيف تتحول الممارسات اللغوية للأفراد إلى سياسات؟ الاستخدامات اللغوية الحقيقية معقدة ونادراً ما تكون ملائمة مع خطط السياسة؛ ومع ذلك، غالباً ما يصبح هذا التعقيد روتينياً في حالات معينة. بعبارات أخرى، نعني بذلك أنه يصبح معياراً او شكل من اشكال السياسة غير الرسمية. من اجل المزيد من التوضيح، سوف اقوم بتقديم بعض الأمثلة على ما أعنيه بهذا الكلام.

فيما يتعلق بالسياق، خلال السنوات الأخيرة سعت دولة الامارات العربية المتحدة بشكل ملحوظ إلى تعزيز سياساتها اللغوية ومبادراتها في مجال التخطيط. فقد اصبحت البلاد تستثمر مادياً وسياسياً على نحو متزايد في التعليم باللغة الانجليزية في جميع مستويات مراحل التعليم العام، وبالوقت ذاته شددت على توسيع نطاق استخدام اللغة العربية لتشمل مجالات مثل العلوم، والتعليم، والأبحاث. دستورياً، اللغة الرسمية لدولة الامارات العربية المتحدة هي اللغة العربية، ومع ذلك، فإن الموقف الرسمي بشأن ما يعنيه هذا من الناحية العملية كان دائماً غامضاً إلى حد ما. أضافت رؤية الامارات 2021 وميثاق اللغة العربية بعض النقاشات الأولية حول أهداف سياسة اللغة الحكومية في المستقبل القريب لدولة الامارات العربية المتحدة. فقد دعت رؤية 2021 إلى "أعادة استخدام اللغة العربية اثناء التحدث والكتابة، كما كان عليه الوضع في السابق، باعتبارها لغة ديناميكية نابضة بالحياة" (الصفحة 7)، وينص الميثاق على أن الغاية من ذلك تتمثل في "تأكيد (المكانة) البارزة للغة العربية في دولة الامارات العربية المتحدة" (الصفحة رقم 1).

بهدف توضيح إحدى الامثلة حول كيفية تحول التجارب اللغوية للمستخدمين إلى سياسة غير رسمية أود الإشارة إلى أحد المشاركين في مشروع بحثي، واسمه برادلي (جميع الأسماء مستعارة)، وهو مغترب يعمل في أحدى الشركات في المنطقة الحرة. قبل الانتقال للعيش في إمارة رأس الخيمة، لم يكن يتحدث اللغة العربية، ومع ذلك توقع أن يتعلم هذه اللغة. كان يؤمن بأن اللغة العربية لغة "الزامية" في دولة الإمارات. خلال هذه المرحلة، قد نقول أن سياسة اللغة العربية في دولة الامارات العربية المتحدة كانت ناجحة إلى حد ما من حيث أن الصورة التي تظهرها دولة الامارات على الصعيد الدولي هي تلك "لدولة عربية" حيث تعتبر اللغة العربية ضرورية من أجل العمل والعيش بصورة ناجحة داخل البلاد. ومع ذلك، سرعان ما اكتشف برادلي بأن واقع الحال مختلف تماماً.

المشكلة لم تقتصر على عدم حاجة برادلي الى تعلم اللغة العربية فحسب، بل تعدى ذلك لتشمل حاجته الماسة الى تعلم لغة أخرى، وهي تحديدا الأوردية، من اجل التعامل مع الآخرين بصورة ناجحة. فقد تطلبت وضيفته أن يكون قادراً على شرح إجراءات العمل وتعليمات السلامة إلى الموظفين من الهند وباكستان، غير أن المشكلة كانت أنهم لا يجيدون التحدث باللغة الإنجليزية او العربية مما شكل عائق كبير بالنسبة الى برادلي. ونتيجة لذلك، تحتم على برادلي وزميل آخر معه في العمل إنشاء سياسة عمل غير رسمية باللغة الأردية لاستخدامها في الحياة العملية والشخصية مع الآخرين. خلال الأشهر الستة الأولى من وجوده في الدولة، حاول برادلي ممارسة اللغة الأردية خلال وقت فراغه وداخل المطاعم والمتاجر في إمارة رأس الخيمة، وشاهد الافلام باللغة الأردية في محاولة منه لتعلم هذه اللغة. بالاضافة إلى ذلك، حاول التواصل مع الآخرين في العمل باللغة الأردية، وبعد مرور ستة أشهر على قيامه بذلك، شعر بأنه أصبح أكثر طلاقة في التحدث بهذه اللغة. شعر بأن الأمور تسير بصورة أفضل وذلك بفضل إنشائه لسياسته غير الرسمية التي قام بتنفيذها مع الآخرين. باختصار، في نهاية المطاف، السياسات اللغوية التي وضعها برادلي باللغة الأردية كانت ناجحة للغاية، على عكس السياسات المتعلقة باستخدام اللغة العربية.

المثال الثاني يتعلق بمشاركة آخرى في مشروع بحثي، التي تحدثت معي حول تجربتها مع اللغة في إمارة رأس الخيمة. ماريا، امرأة انتقلت إلى إمارة رأس الخيمة عندما كانت بسن المراهقة، وبقت في المدينة بعد تخرجها من مرحلة الدراسة الثانوية. أوضحت أنها عندما انتقلت إلى المدينة لأول مرة، التحقت بمدرسة خاصة باللغة الانجليزية للمرحلة المتوسطة، لكن جميع زملائها في المدرسة كانوا يتحدثون اللغة العربية. قرر العديد من الطلاب الذين يدرسون معها أنه سيكون من الأفضل استخدام اللغة الإنجليزية داخل وخارج المدرسة، موضحين لماريا أن ذلك سيجعلها تشعر بالمزيد من الارتياح اثناء تعاملها مع الآخرين. ما زالت ماريا على علاقة طيبة مع زملائها السابقين، ومازالت تستخدم اللغة الانجليزية اثناء تعاملها معهم بالوقت الحالي. على هذا النحو، بالرغم من أن لديها العديد من الأصدقاء الناطقين باللغة العربية، وتلقيها لدروس اللغة العربية في مرحلة الدراسة الثانوية، لم تتعلم ماريا الكثير من اللغة العربية ولا تستخدم هذه اللغة بشكل كبير خلال حياتها اليومية.

بالنسبة إلى برادلي وماريا، كانت السياسات اللغوية غير الرسمية أكثر أهمية من السياسات الرسمية في تشكيل تجاربهم مع اللغة في إمارة رأس الخيمة. ومع ذلك، يتطلب فهم هذه التجارب معرفة كيفية تفاعل الناس في المدينة (والإمارات ككل) مع اللغة والسياسات اللغوية بطرق تتجاوز أطر السياسة الرسمية.

إذا كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تأمل بترويج اللغة العربية كلغة وطنية في الممارسة (وليس فقط كقانون)، فسوف تحتاج إلى ان تتوصل إلى فهم أفضل حول أنواع السياسات التي تحدد بالفعل الممارسات اللغوية لسكانها – وخصوصاً المغتربين، حيث يمثلون غالبية السكان، وبسبب التأثير الاقتصادي، يؤثرون بشكل كبير على الخيارات اللغوية لزملائهم الوافدين، وكذلك مواطني دولة الإمارات العربية المتحدة. هذا يعني التحدث مع الناس حول تجاربهم داخل البلاد للتعرف على روتين عملهم وحياتهم ومسارات السياسة التي يبنونها من خلالهم.

المراجع

Spolsky. B. (2004). Language policy. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

للمزيد من المعلومات حول السياسات اللغوية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأهمية فهم كيفية استخدام اللغة، الرجاء قراءة ورقة السياسة التي توفرها مؤسسة القاسمي بعنوان تجارب المغتربين مع السياسات اللغوية في دولة الإمارات العربية المتحدة: التحديات والتناقضات والفرص من إعداد الباحث الزائر وليام كوك.

وليام هو طالب دكتوراه في برنامج اللغويات واللغويات التطبيقية في جامعة يورك. اهتماماته البحثية هي في السياسة والتخطيط اللغوي، مع تركيز خاص على دول الخليج العربي، وهو ينشر طرق البحث الإثنوغرافية والسردية لأبحاث السياسات.



محتوى ذو صلة